الإمام محمد عبده

رفض الإمام محمد محمد عبده السلطة الدينية، و لكنه لم ينادي بالعلمانية. و إنما نادي بالسلطة المدنية الإسلامية. فهو يقول أن الحاكم ليس له سلطة دينية فيحكم علي عقائد الناس بالفساد أو الصلاح ، كما كان يفعل الباباوات في أوروبا، و إنما الحاكم الإسلامي سلطته مدنية و يحكم بالشرع الإسلامي كسلطة تنفيذية تنفذ هذا الشرع، و ليس وسيطاً بين الله و عباده.
هو محمد عبده حسن خير الله،  ولد بحصة شبشير من قري إقليم الغربية، ولكنه نشأ في قرية محلة نصر، مركز شبراخيت بمحافظة البحيرة، سنة 1849 م / 1266 هج.
تعلم القراءة و الكتابة في القرية، و أكمل حفظ القرآن في سن السابعة، ثم بعث به أبوه إلي الجامع الأحمدي بطنطا ليدرس تجويد القرآن عام 1862 م.
بعد أن أتم تعلم تجويد القرآن، بدأ محمد عبده يدرس علوم الدين. و لكنه لم يعجب بطرق التدريس في الجامع و التي وجدها عقيمة ، فهجر الجامع الأحمدي و عاد إلي قريته سنة 1865م. و قرر أن ينقطع عن التعليم و يشارك أخوته في الزراعة. و لكن أبوه رفض و قرر عودته للجامع الأحمدي في نفس العام.


عاد محمد عبده إلي الجامع الأحمدي، و منه إلي الأزهر عام 1866 م / 1282 هج. و هناك وجد المشايخ ينقسمون إلي قسمين، قسم محافظ و قسم صوفي. ولكن محمد عبده انحاز للفكر الصوفي الذي كان يرأسه الشيخ حسن رضوان.

و في عام 1871 م تقابل محمد عبده مع جمال الدين الأفغاني الذي إليه يرجع الفضل في تحول محمد عبده من الصوفية إلي الفلسفة، و منها إلي الثورة و الإصلاح.
صحب جمال الدين الأفغاني زمناً و لكنه اختلف معه في أسلوب الإصلاح، و حديثهما الشهير عن الإصلاح بالتعليم في مقابل الإصلاح السياسي مازال يثير نقاشاً غنياً لدعاة الإصلاح في كل زمان و مكان.
محمد عبده: أري أن نترك السياسة و نذهب إلي مجهل من مجاهل الأرض لا يعرفنا فيه أحد، نختار من أهله عشرة غلمان أو أكثر من الأذكياء السليمي الفطرة، فنربيهم علي منهجنا و نوجه وجوههم إلي مقصدنا، فإذا أُتيح لكل واحد منهم تربية عشرة آخرين لا تمضي بضع سنين أخري إلا ولدينا مائة قائد من قواد الجهاد في سبيل الإصلاح، ومن أمثال هؤلاء يرجي الفلاح
جمال الدين الأفغاني: إنما انت مثبط. نحن قد شرعنا في العمل و لابد من المضي فيه، ما دمنا نري منفذاَ”

حصل الإمام محمد عبد علي شهادة العالمية من الأزهر عام 1877 م و عمره ثمانية و عشرين عاماً، و عين مدرساً للتاريخ بمدرسة دار العلوم، و عين مدرساً للعلوم العربية في مدرستي الألسن و التجارة.
نشأ محمد عبده في فترة كانت مصر قد تلقت فيها صدمة حضارية كبيرة بعد قدوم الحملة الفرنسية، و التي كشفت للمجتمع مصري أنه كان يعيش في كهف مظلم قد عشش فيه الجهل و التخلف طوال حكم آل عثمان الذي استمر قرابة ثلاثة قرون ( 1517- 1798م).

و قد نتج عن هذه الصدمة تحول المجتمع إلي فريقين، فريق هاله هذا التخلف الذي طرأ علي أمة “إقرأ” ، صاحبة الباع الحضاري العريق، فرجع إلي المعين الأصلي للدين ينفض عنه ما علق به من بدع و خرافات ليعيده إلي سيرته الأولي. و تمثل هذا التيار أفضل ما تمثل في الحركة الوهابية التي نشأت علي يد الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربية. فلسلك هذا الفريق طريق تقليد السلف الصالح .
أما الفريق الآخر ، فقد بهره الفارق الحضاري الكبير لصالح الغرب الذي نفض عن نفسه حكم بابوات الكنيسة، و نادي بالحرية و الإخاء و المساواة. فانجذب هذا الفريق إلي الحضارة الأوربية و آمن بها، و دعي إلي هجر الدين، فهو لا يري من الإسلام إلا شكله المملوكي العثماني فينفر منه، و لا يري في التراث إلا قيداً يشده إلي الأرض، فيري أنه لا تقدم و لا تحضر إلا بكسر هذا القيد.
و لكن محمد عبده كان ينتمي إلي فريق ثالث. هذا الفريق لم يجد في الحركة الوهابية ضالته لما كانت تتسم به من بداوة و بالتالي وقفت موقفاً متشككاً من حكم العقل و المدنية الجديدة. و في نفس الوقت رفض محمد عبده، مع فريقه، الانسلاخ عن تراث و ثقافة المجتمع الاسلامي و الارتماء في احضان ثقافة أخري. و يري أن هذا الطريق لن يوصلنا إلي شئ لأنه يستدعي نقض كل شئ و البدء من جديد، و هذا يعد من المستحيلات.
لذلك عمد محمد عبده إلي الدعوة إلي طريق ثالث بعيداً عن التقليد و بعيداً عن الانقياد، هو طريق التجديد الديني. و هو أن نزيل عن الفكر  غيوم الأوهام و الخرافات و ضيق الأفق و الجمود الذي أوقعنا في واد عميق من الجهل و التخلف. و لكن دون أن نرفض أصل حضارتنا و هو الإسلام. لأن هذه الحضارة كان لها نصيباً من العلو و السمو و التفوق علي الحضارات الأخري. فإن أصابها الجمود الآن فليس بسبب دعامتها الأساسية و هو الإسلام، إنما بسبب ما أصبنا به نحن من جمود و ضيق أفق و عزوف عن التفكير و فقد الثقة.

و لقد لخص محمد عبده منهجه في ثلاث نقاط :
أولاً : الصلاح الديني ، و تحرير الفكر من التقليد.
ثانياً: الاصلاح اللغوي، بتحرير اللغة من الشكليات و الزخارف و المحسنات و السجع الذي لا يضيف إلي المعني شيئاً.
ثالثاُ: الإصلاح السياسي ، بمناهضة الاحتلال. و لكنه تخلي عن ذلك فيما بعد، و ركز علي الهدفين الأولين.

كان محمد عبده لا يري طريقاً للإصلاح الديني إلا بإصلاح الأزهر ، و قال في ذلك ” إن بقاء الأزهر متداعياً علي حاله، في هذا العصر، محال، فهو إما أن يعمر ، و إما أن يتم خرابه”.
و علي الرغم أن محمد عبده و الحركة الوهابية أتفقا في محاربة البدع و الخرافات، إلا أنهما اختلفا في الطريقة. فمنهج الحركة الوهابية هو ترك البدع و الخرافات و التي جدت علي علوم الدين ، و العودة إلي تقليد السلف الصالح عن طريق الأخذ بظاهر النص، و رفض التأويل.
أما محمد عبده، فقد رأي أن التقليد نفسه هو المشكلة سواء تقليد المشايخ فيما ابتدعوه من بدع و خرافات و أوهام يحشون بها مناهج الأزهر، أو التقليد النصي للسلف الصالح بدون إبداء مرونة في التعامل مع مستجدات العصر و تغير المكان و الزمان.
لقد رأي محمد عبده أن المشكلة ليست في اختيار من نقلده ، و إنما المشكلة في أن نلجأ إلي التقليد أصلاً. و الحل في رأي محمد عبده هو إعمال العقل و إحياء عقلانية التراث الإسلامي، لنعطي للأمة بديلاً عن الجمود و عن التغريب.

و يري الإمام محمد عبده أن الذين يريدون أن يفسروا القرآن تفسيراً حديثاُ مستنيراً، عليهم أن يتزودوا بالأسلحة اللغوية و أسباب النزول و السيرة النبوية و ألا تشكل آراء المفسرين السابقين حدوداً للتفكير و الاستنباط ، لأن رؤي المفسرين السابقين ارتبطت بالمستوي العقلي و درجة العلم التي بلغوها. فلا يجب أن نلزم انفسنا بما بلغوه هم و نقف عنده فلا نتعداه.
فإذا كان الرسول صلي الله عليه و سلم لم يفسر القرآن، فلماذا نضفي قدسية علي تفسيرات العلماء السابقين، و نضعها حاجزاً بيننا و بين الإعمال المستمر للعقل في معاني و مقاصد الآيات القرآنية، و هو ما يراه محمد عبده إحدي مقاصد الله في القرآن، فيقول لأحد أعضاء جمعية العروي الوثقي ” داوم علي قراءة القرآن، و تفهم أوامره و نواهيه و مواعظه، كما كان يتلي علي المؤمنين و الكافرين أيام الوحي، و حاذر النظر إلي وجوه التفاسير إلا لفهم مفرد غاب عنك مراد العرب منه، أو ارتباط مفرد بآخر خفي عليك متصله، ثم اذهب إلي ما يشخصك القرآن إليه، و أحمل نفسك علي ما يحمل عليه، و ضم إلي ذلك مطالعة السيرة النبوية، واقفاً عند الصحيح المعقول، حاجزاً عينيك عن الضعيف المرذول”

كما رأي محمد عبده أن الأتراك غير قادرين علي قيادة الأمة الإسلامية للرقي و الرفعة، و يتمني أن يتولي العرب خلافتهم بأنفسهم. و لكنه يخشي أن الدعوة للتخلص من حكم الأتراك الغاشم قد يؤدي إلي نشوب صراع بين العرب و الأتراك يضعفهم و يجعلهم لقمة سائغة للأوروبيين الذين يتحينون الفرصة للإنقضاض علي أملاك الدولة العثمانية، و هو ما حدث بالفعل بعد الحرب العالمية الأولي.

كان له موقفاً تاريخياً مع الثورة العرابية عام 1881 و 1882م. يقول العقاد في كتابه ( عبقري الإصلاح محمد عبده) أن محمد عبده كان ثائراً و لكنه لم يكن عرابياً. كان يؤيد الثورة العرابية في “أمرين: اولهما: تنبيه الرأي العام و جمع كلمته للمطالبة برفع المظالم و إصلاح الحكم و إسناد المناصب الكبري  و وظائف الحكومة عامة إلي الوطنيين، و ثانيهما هو التعويل علي إنهاض الامة و إقامة نهضتها علي أسس التربية و التعليم و إعدادها للحكم النيابي المستقل برغبتها الصادقة و قدرتها علي صيانته من عبث الولاة المتسلطي.

إلا أن محمد عبده كان يخالف العرابيين في اتباع الخطة التي تؤدي إلي الشطط و تفتح باب التدخل العسكري من جانب الدول الاجنبية، إنجلترا و فرنسا. و كان يعيب علي العرابيين قصر نظرهم و قلة تبصرهم.
و لكن عندما وقعت الواقعة و أصبح الإنجليز علي أبواب مصر يدكون حصون الاسكندرية انضم الشيخ محمد عبده للعرابيين  و وضع يده في أيديهم. و بعد دخول الإنجليز إلي مصر جري القبض علي العرابيين و منهم محمد عبده و حُكم عليه بالنفي خارج مصر فعاش في بيروت حتي رفع الحظر عنه و عاد إلي مصر عام 1889م .
و بعد عودته اشتغل لاقضاء و تدرج في المناصب حتي عين مفتياً للديار المصرية عام 1899

توفي الإمام محمد عبده بالاسكندرية عام 1905م. و رثاه شاعر النيل حافظ إبراهيم بقوله:
بكى الشرق فارتجت له الأرض رجة
وضاقت عيون الكون بالعبرات
ففي الهند محزون وفي اليمن جازع
وفي مصر باك دائم الحسرات

وفي الشام مفجوع وفي الفرس نادب
وفي تونس ما شئت من زفرات

بكى عالم الأسلام عالم عصره
سراج الدياجي هادم الشيهات


أهم مؤلفاته
  • رسالة التوحيد
  • تحقيق وشرح “البصائر القصيرية للطوسي
  • تحقيق وشرح “دلائل الإعجاز” و “أسرار البلاغة” للجرجاني
  • الرد على هانوتو الفرنسي
  • الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية
  • تقرير إصلاح المحاكم الشرعية سنة 1899 م
  • شرح نهج البلاغة للإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه

المراجع:
  1. الإمام محمد عبده، مجدد الدنيا بتجديد الدين، محمد عمارة
  2. عبقري الإصلاح محمد عبده، عباس محمود العقاد، نهضة مصر، 1981

Thanks For Making This Possible! Kindly Bookmark and Share it.

Technorati Digg This Stumble Stumble Facebook Twitter
 

Post a Comment

 
Support : Creating Website | Johny Template | Mas Template
Copyright © 2011. تاريخ مصر - All Rights Reserved
Template Created by Creating Website Published by Mas Template
Proudly powered by Blogger